وكانت هذه المقابلة الخبر الرئيسي في الصحف الغربية طوال الأيام الماضية متسائلين عن أهداف بوتين من هذا الحوار وفي هذا التوقيت ناهيك عن أن هذا هو أول حوار يجريه الرئيس مع وسيلة إعلام غربية منذ أن أعلن حربه ضد أوكرانيا .

كان السؤال الأول الذي تم طرحه عند الإعلان عن موعد عرض هذه المقابلة هو لماذا اختيار كارلسون دون غيره لإجرائها؟ وهنا بات واضحا أن القيادة الروسية تعلم مدى تأثير هذا الإعلامي في الحزب الجمهوري وهو المقرب من الرئيس ترامب ولا يغيب عن البال هنا -وقد لاحظنا جمعيا هذا الأمر بوضوح- أن تاكر لم يكن يتحدث في الحوار إلا طارحا الأسئلة دون تعقيب أو استفسار وكأن المقابلة عبارة عن رسائل مرتبة ومعنونة سلفا أو كأنها محاضرة في إحدى جامعات موسكو.

ومهما يكن من أمر فقد أعادت هذه المقابلة كارلسون إلى الاضواء الإعلامية منذ توقف برنامجه على قناة فوكس نيوز العام الماضي .

الإعلام الأميركي رأى في المقابلة "بروباغندا" أرادها بوتين وأراد من خلالها تشتيت الغرب عبر استعراض تاريخ روسيا الذي لا يعرف حسب مفهوم بوتين سوى القوة والانتصار في مواجهة المؤامرات التي تعرضت لها الإمبراطورية الروسية عبر تاريخها وتتعرض لها اليوم-حسب زعمه-من (الدولة الأميركية العميقة) التي تريد تقطيع أوصال روسيا .

من ناحية تحليلية فإن الملاحظة الأولى التي استنتجتها من هذا الحوار الذي ناقشت نقاطه على مدى خمسة أيام مع العديد من الصحفيين والساسة الأميركيين بجوار الكابيتول هنا في واشنطن هي أن الرئيس بوتين يعرض صفقة على الولايات المتحدة فيما يخص الحرب في أوكرانيا مفادها التنازل عن الأراضي الأوكرانية مقابل إنهاء الحرب وهو ما رفضته واشنطن بل وأعلنت عن مساعدات بقيمة 15 مليار دولار لكييف خلال الساعات القليلة الماضية.

وبينما يرى الرئيس الروسي أن أوكرانيا دولة مصطنعة أساسا فإن الـ30 دقيقة التي عرض فيها تاريخ روسيا مع أوكرانيا بدت وكأنها (صواريخ انتقامية) تتمنى إزالة كييف من الوجود إذا لم يستطع الناتو إقناعها بالخيارات التي تطرحها روسيا للاعتراف بسيطرة موسكو على الأراضي التي احتلتها في أوكرانيا وعموما وباختصار شديد فإن بوتين لا يرى في أوكرانيا سوى أناسا على أطراف روسيا يقيمون في كيان مصطنع لم يكن موجودا قبل العام 1922 ولا حاجة أبدا لتقاتل الولايات المتحدة في أوكرانيا بل الأفضل لها في رأي قيصر روسيا التوصل إلى اتفاق مع موسكو وهو ما اعترف كارلسون لاحقا في حواره مع صحيفة إزفيستيا الروسية بأنه الهدف الأساس من حواره مع بوتين أو بمعنى آخر النظر وإقناع الإدارة الأميركية برغبة روسيا في حل سلمي للأزمة مع أوكرانيا وداعميها الغربيين.

لم يقل بوتين الحقيقة كثيرا في هذا اللقاء الذي شاهدته مرات عديدة، فقد نفى الرجل أنه زعم قديما أن أميركا كانت ستشن ضربة مفاجئة على بلاده وتصريحه ذلك مسجل وموثق، كما ادعى في هذا الحوار أن الرئيس الأوكراني حظر التفاوض مع روسيا وهذا خلاف الواقع ذلك أن زيلينسكي حظر التفاوض مع شخص بوتين دون غيره من ساسة روسيا، كذلك زعم امتلاك الحكومة الأميركية لوسائل الإعلام في العالم وفي أوروبا وهذا خلاف الحقيقة فمن يملك تلك الشركات هو القطاع الخاص وليس الحكومة .

في هذه المقابلة التي شغلت العالم لم يطرح بوتين الإجابات التي انتظرها الجميع ولم ينجح تاكر في استخلاص الأهداف المخفية من حرب روسيا ضد أوكرانيا وكأن الهدف المتفق عليه بين الطرفين هو إعطاء حصة في التاريخ لشعب الولايات المتحدة والغرب عن قدرات روسيا وأن هزيمتها عسكريا أو استراتيجيا مستحيلة وأنها لا تريد توسيع الحرب الدائرة في أوكرانيا لتصل إلى بولندا أو لاتفيا لكنها لا يمكن أن تغفل عن سياسات التوسع التي يتبعها حلف الناتو منذ التسعينيات .

في خلاصة القول، قد يبدو الرئيس الروسي منتصرا إعلاميا في مقابلته هذه وقد تبدو الأضواء قد عادت إلى تاكر كارلسون لكن الحقيقة أن الشعب الأميركي لن يتأثر برسائل بوتين ولن تذهب تلك الصورة التي يحملها له وأما زعم كارلسون أنه أجرى المقابلة لأن الأميركيين لا علم لهم على الإطلاق بما يحدث في روسيا وأوكرانيا فهو لن يبيض تاريخه الطويل بالإشاعات شبه المؤكدة التي تروج لها وسائل الإعلام الانغلوساكسونية عن عمالته التاريخية لروسيا.

وأما الادعاء بأن هذا اللقاء يخدم الحملة الانتخابية للرئيس ترامب فهذا وإن كان فيه شيء من الحقيقة فإن التناقضات في أميركا ما بين الجمهوريين والديمقراطيين باتت اليوم تؤثر فيها عوامل كثيرة ليس بينها بصورة كبيرة ذلك المأزق الروسي مع الناتو.

وهناك عوامل كثيرة جدا وقضايا داخلية وخارجية ليس على رأسها الانشغال بتحليل الوضع النفسي لقيصر روسيا الذي أثبت لقاءه هذا أن الولايات المتحدة هي هاجسه الأول والأخير وكأنه يرسل رسالة إلى الإدارة الأميركية يقول فيها: نعم.. أنا أؤمن أن 99 في المئة من حل المشكلة التي أعاني منها في أوكرانيا هي بيدكم أنتم.