فرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يرى أن حربه في غزة هي "دفاع عن الحضارة". كذلك كان الحال قبل أكثر من عامين حين بدأت الحرب في أوكرانيا إذ اعتبر الغرب مساندة كييف في وجه موسكو دفاعا عن الحضارة الغربية.

هذا "الاستسهال" في استخدام المصطلح زاد بقوة ما بعد نهاية الحرب الباردة في ثمانينيات القرن الماضي وربما أكثر بعد صدور كتابين مهمين لمفكرين أميركيين في النصف الأول من التسعينيات هما "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما و"صدام الحضارات" لصامويل هنتنجتون. وهناك بالطبع كثير من الكتب والمقالات الأكاديمية حول الموضوع، كلها في سياق التنظير لمحاولة ارساء نظام عالمي جديد ما بعد ثنائية القطبية بين الشرق والغرب.

هل ينتهي التاريخ، كما عنون فوكوياما كتابه؟ بالطبع لا. لكنه قصد نهايته كما عرفناه وبداية تسيد الرأسمالية الغربية. أما هنتنجتون فركز على أن النظام العالمي الجديد سيقوم بحسم الصراع بين الحضارة الغربية وحضارات الشرق ومنها الاسلامية. فهل تنتهي الحضارة؟ أم تنمو وتزدهر ثم تخبو وتضمحل تاركة غيرها تحل محلها وهكذا دورات؟

أولا، من الصعب اعتماد تعريف علمي صارم للحضارة، غير ما هو شائع من أنها تقدم وتطور جماعة بشرية ما في نطاق جغرافي معين في مرحلة ما من تاريخها مراكمة تراثا من العلوم والفنون والنمو الاقتصادي والمعرفي. وإن كان البعض يضيف إلى التقدم الثقافي بشكل عام مسألة الأخلاق كأحد مكونات الحضارة، فإن ذلك ليس دقيقا تماما. فأغلب الحضارات لم تكن "أخلاقية"، بل إن ما نعرفه في القرون القليلة الأخيرة من تاريخ البشرية يدل على أن الحضارات افتقرت إلى الأخلاق بل إن بعضها تأسس على العتف والوحشية.

بعض الحضارات القديمة اعتمد على الاكتفاء الذاتي دون تفاعل كبير مع غيرها في زمانها، وبعضها استفاد من الاحتكاك والتعامل مع حضارات أخرى بما زادها ثراءا أو عجل بنهايتها واضمحلالها. في زماننا المعاصر، نجد الجميع يتفاخر بحضارة زالت وأن هذه الجماعة البشرية أو تلك هي امتداد للحضارة البائدة. ولعل جماعات التطرف والتشدد التي تعتمد الإرهاب والوحشية متسربلة بالدين أكثر تلك التكوينات البشرية استدعاءا لذلك. لكن، حين برز تنظيم القاعدة الارهابي، وبعده تنظيم داعش الأشد ارهابا وأكثر وحشية قبل عقد من الزمن، كان من الصعب تصور أن تلك التنظيمات نتاج أي حضارة. وليس الأمر هنا متعلقا بالأخلاق أو غيرها، إنما لأن الحضارات تبني وتضيف للتراث الانساني ولا تدمر وتحرق كما تفعل تلك التنظيمات الارهابية.

بعودة إلى الوراء قليلا، في نهاية النصف الأول من القرن الماضي، برزت في أوروبا موجة الفاشية والنازية التي اعتبرت نفسها عرضا مهما للحضارة الغربية بالتمييز بين الجنس الآري والجنس السامي لصالح الأول باعتباره "حضاربا" والثاني "همجيا". لم تؤسس تلك التوجهات لحضارة أوروبية، بل إنها وضعت بذرة تراجع على كل المستويات: اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا بشكل عام. ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، انتقل مركز الثقل – لا نقول الحضاري، وانما السياسي والاقتصادي – عبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة.

ما بعد الحرب الباردة، عادت الصين التي لها إرث حضاري مميز في غابر الزمان لتعزز من مكانتها الاقتصادية وتحاول لعب دور دولي. ومع أن الحضارة الصينية القديمة كانت مميزة فعلا، لكن الوضع الحالي يختلف تماما. صحيح أن هناك روافد تظل موجودة وان ضعفت بمرور الزمن وتعاقب الأجيال، لكنها بعد ذلك تختفي تقريبا. ينطبق ذلك على حضارات أخرى في الشرق والغرب عبر تاريخ البشرية الطويل.

بغض النظر عن تصريحات السياسيين، التي لاقيمة علمية لها في الواقع، فإن الحديث عن "حضارة غربية" أمر محل شك كبير. خاصة وأن "المركز" الأوروبي الذي تستند إليه في تراجع مستمر، بل ويكاد يأخذ معه القوة الغربية الرئيسية الجديدة عبر الأطلسي. ربما يكون الوضع الحالي عملية مخاض فعلا لحضارة غربية جديدة تقودها تيارات التطرف والعنف مع ما نشهده من صعود جماعات يمينية متشددة وتغيير في مباديء ومفاهيم حفظت النظام المجتمعي في دول أوربا لعقود. ليس بالضرورة أن تكون تلك الجماعات مثل القاعدة وداعش، فقد تراجع دور الدين كمكون للثقافة الغربية بشكل عام منذ زمن طويل.

إذا كان هناك ما بقي من حضارات الشرق والغرب، فإننا في ذروة عملية تشكل "نظام عالمي جديد" حاليا نشهد فعلا نهاية الحضارة. ليس على طريقة فوكوياما بنهاية التاريخ بتسيد طرف واحد ولا حتى بطريقة هنتنجتون بصدام حضارات ينتهي بانتصار واحدة وتسيدها. وإنما نهاية دورة بشرية كاملة ستفضي إلى شيء جديد تماما، ربما يختلف عما عرفناه من قبل تلعب فيه البيئة والتكنولوجيا الدور الأكبر لتأسيس حضارة انسانية جديدة على أنقاض المنتهية. ويصعب تصور أن يكون فيها شرق أو غرب، بل حضارة انسانية عامة.